التفكير في الأمن الاقتصادي القومي..
بقلم : د. طه عبدالعليم
________________________________________
حين تنطلق الأمة من التفكير في المصلحة الوطنية يشغل الأمن الاقتصادي القومي موقعا مركزيا في إستراتيجية التنمية الاقتصادية, سواء تعلق الأمر بأزمات الخبز والأسمدة الكيماوية وتهديد الأمن الغذائي, أو اتصل بعمليات الخصخصة والاستثمار الأجنبي وتهديد السيادة الاقتصادية. وقد نوجز فنقول إن جوهر الأمن الاقتصادي القومي يكمن في تقليص أسباب الانتقاص من' استقلال القرار الاقتصادي', من جهة, وتعظيم روافع مضاعفة' القدرة التنافسية الاقتصادية', من جهة أخري. وسلامة هذا الاستنتاج تؤكده إخفاقات إدارة الاقتصاد بالأوامر المركزية' الإشتراكية' واخفاقات إدارة الاقتصاد بالأيدي الخفية' الرأسمالية', سواء بسواء.
وليس في الحديث عن الأمن الاقتصادي القومي ردة إلي شعار' التنمية المستقلة' أو إنكار لمعطي' العولمة الاقتصادية', إذ يبرز هذا الحديث في قلب الخطاب الاقتصادي العلمي وعلي رأس التوجه السياسي العملي علي امتداد الساحة العالمية, من اقتصاد السوق' الاشتراكية' في جمهورية الصين الشعبية إلي اقتصاد السوق' الحرة' في الولايات المتحدة الأمريكية ومرورا باقتصاد السوق' الاجتماعية' في أوربا القديمة والجديدة! ولعل الجديد المهم هو الجمع بين هدف تقليص الإنكشاف والتهديد الاقتصادي وهدف تعظيم التنافسية والقدرة الاقتصادية, إذا أرادت الأمة مواجهة مصادر التهديد الخارجي والداخلي للأمن الاقتصادي القومي, وذلك انطلاقا من التسليم بأن كل من الهدفين يعزز الآخر, طالما يراعي الحفاظ علي التوازن الدقيق بينهما,فلا يجور أحدهما علي الآخر! وبكلمات أخري فإن التحسين المطرد لمستوي معيشة المواطنين استنادا إلي القرار الاقتصادي الوطني يتوقف قبل أي شيء علي تعظيم تنافسية الاقتصاد الوطني, وهما معا شرط تحقيق المصالح الاقتصادية العليا للأمة والوقاية من التهديدات والصدمات الاقتصادية الخارجية.
وتتمثل' السيادة الاقتصادية' في مقدار سيطرة الدولة علي معدل واتجاه التنمية الاقتصادية وقدرتها علي مقاومة العواقب السلبية للمؤثرات الخارجية. وكما يقول الصينيون أصحاب الخبرة الأهم في الإنفتاح الاقتصادي وجذب الاستثمار ومضاعفة الصادرات,فإن ثمة سلطة اقتصادية' غير قابلة للتوزيع' لا ينبغي بحال من الأحوال تقاسمها مع بلدان أخري, وتوجب أن تنفرد بها الدولة الوطنية, في مقدمتها اختيار النظام الاقتصادي وملكية الموارد الطبيعية والسيطرة علي السوق المحلية والمشروعات الحاكمة والتكنولوجيات الحرجة.
وأما السلطة الاقتصادية'' القابلة للتوزيع' بتقاسم اتخاذ القرار مع الآخرين, فإنه يتمثل فيما يترتب علي عملية الإنفتاح من جذب للاستثمارات الأجنبية وما تمليه إدارة العولمة من سياسات اقتصادية. بيد أنه ينبغي إدراك أن مثل الانتقاص من' السيادة الاقتصادية' يتباين حسب القوة الاقتصادية لهذه الدولة أو تلك! ويمثل تعظيم القوة الاقتصادية الوطنية وتعاون البلدان النامية والتكامل الاقتصادي الأقليمي روافع رئيسية لمجابهة نزعات التعدي علي السيادة الاقتصادية من جانب حكومات وشركات القوي الاقتصادية الكبري في ظل نظام اقتصادي عالمي وضعت الأخيرة قواعده بما يعزز هيمنتها الاقتصادي, وذلك استنادا إلي اختلال' توازن القوي' لصالحها وإن تسترت شعارات زائفة عن' توازن المصالح'.
وقد عانت مصر إخفاقات هيمنة' القبضة القوية' للدولة' الأبوية' تحت شعار عدالة توزيع تجاهلت اعتبارات الكفاءة في إدارة الاقتصاد, وتعاني إخفاقات' اليد الخفية' للسوق' الحرة' بترويج وهم أن تغليب المصلحة الفردية من شأنه تحقيق مصلحة المجتمع. وانطلاقا من اخفاق الحالتين في تحقيق الكفاءة والعدالة وإهدار الأمن الاقتصادي القومي متمثلا في رفاهة السكان وتنافسية الاقتصاد, يتوجب علي مصر أن تعيد الإعتبار لأولوية الأمن الاقتصادي القومي,علي أن تعيد صياغته في ضوء التعلم الإيجابي من الخبرة الوطنية والعالمية. وفي سعينا للمساهمة في تحديد هذا المفهوم,
ننطلق من التسليم بأنه لا يوجد مفهوم موحد ثابت للأمن الاقتصادي القومي, لأن ثمة فروقا جوهرية في تحديد مرتكزاته بين بلد وآخر, ولأن مصادر تهديد هذا الأمن ترتبط أحيانا بالتصورات والإدراكات أكثر مما ترتبط بالحقائق والوقائع. لكن الفروق في تحديد الأبعاد الاقتصادية للأمن القومي تتصل من حيث الأساس بالأولوية المعطاة لهذا البعد أو ذاك أكثر مما تتصل بالاعتراف بترابطها رغم تشعبها وتداخلها وتعقدها, وهو ما ينطبق علي مصر شأن غيرها من البلدان. كما نسلم بأنه لا توجد وصفة جاهزة لاستراتيجية الأمن الاقتصادي القومي تصلح لكل وقت وآن, وندرك حقيقة' تباين' أولويات وإدراكات التهديد, ومن ثم سياسات وبرامج تعزيز هذا الأمن. ورغم هذه التحفظات الموضوعية, وانطلاقا من التفاعل المتبادل بين السبب والنتيجة في تشخيص التهديد, نوجز فيما يلي التحدي والاستجابة في مجال الأمن الاقتصادي القومي:
أولا,الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بالتأخر الصناعي التكنولوجي وما يترتب عليه من انخفاض لمستوي التنمية الاقتصادية والضعف النسبي للقوة الاقتصادية حيث تفرض نفسها ضرورات: الإرتقاء بالتصنيع واللحاق باقتصاد المعرفة لمضاعفة انتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة المرتفعة والمحتوي المعرفي الأرقي لتعظيم الوزن النسبي للاقتصاد المصري إقليميا وعالميا بما يعزز دورها في وضع قواعد إدارة العولمة ويضاعف نصيب مصر من فرص العولمة الإقتصادية وتحسين الأداء الاقتصادي الوطني لتحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع ومستدام بالإعتماد علي قطاعات الإنتاج السلعي وتقليص الإعتماد علي مصادر الدخل الريعية.وثانيا, الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بفقر الدخل وعدم عدالة توزيع الدخل والثروة حيث تفرض نفسها ضرورات: تعزيز آليات تحقيق تكافؤ الفرص وخاصة بالارتقاء بمؤشرات التنمية البشرية للتحرر من فقر القدرة برفع انتاجية العمل ومضاعفة الدخل. وثالثا,الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بالانكشاف الخارجي للاقتصاد المصري حيث تفرض نفسها ضرورات: ضبط سياسات التحرير الإقتصادي علي نحو يجمع بين مضاعفة مكاسب تعظيم
التنافسية وحماية السيادة الاقتصادية الوطنية وتقليل مخاطر الصدمات والضغوط الإقتصادية الخارجية وتوسيع فرص المشاركة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق وفورات النطاق اللازمة للتقدم الصناعي التكنولوجي مع تعميق التكامل الاقتصادي العربي لبناء أسس التكافؤ في الإقتصاد المعولم.
ورابعا, الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بفجوات الموارد الغذائية والمائية, حيث تفرض نفسها ضرورات: تعزيز الأمن الغذائي بتعظيم الإكتفاء الذاتي من السلع الغذائية, وخاصة القمح' عيش' المصريين, بتطوير البحوث الزراعية لرفع انتاجية وحدة الأرض المزروعة واستصلاح واستزراع كل شبر من الموارد الأرضية المتاحة ووقف أي شكل للإعتداء علي الأرض الزراعية وتعزيز الأمن المائي وتقليص فجوة الموارد المائية,
بترشيد وتعظيم استخدام الموارد المتاحة وتنمية المصادر الجديدة بتطوير تكنولوجيا تحلية المياه ومواصلة تبني نهج الكسب المتبادل مع دول المنبع. وخامسا, الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بفجوات الموارد المعرفية والتكنولوجية والبشرية, حيث تفرض نفسها ضرورات: تقليص مخاطر الفجوة المعرفية والتكنولوجية بتطوير قاعدة البحوث العلمية الأساسية,
وتوفير حوافز البحث والتطوير التكنولوجي,ووقف التسرب من التعليم الأساسي وتحسين التعليم الفني والتوسع في التعليم العالي العلمي والهندسي علي أساس مبدئي العدالة والكفاءة وضمان الإرتقاء بالجودة والاستجابة للمتغيرات في الطلب علي العمل, وخفض معدل نمو السكان وتنظيم هجرة العمالة المصرية إلي أوروبا, مع توفير فرص التدريب للعمالية غير الماهرة وغير المؤهلة, وسادسا, الاستجابة لتحدي الأمن الاقتصادي القومي المرتبط بالتهديدات الجديدة لتدهور البيئة والجريمة الاقتصادية والإرهاب, حيث تبرز ضرورات: حماية البيئة بوقف هدر الأرض المزروعة وتقليص تلوث التربة والماء والهواء, والمشاركة في مجابهة مخاطر المتغيرات المناخية العالمية, ومكافحة الجريمة الاقتصادية وخاصة الفساد الكبير والصغير. وللحديث بقية نبدأها بالأمن الغذائي!