المبحث الثالث: أثر العرضة الأخيرة في جمع القرآن
كانت العرضة الأخيرة للقرآن الكريم هي المرجع والأساس لقراءة أصحاب النبي ، كما كانت الفيصل بينهم إذا تنازعوا في شيء من كتاب الله ، ولَمَّا أرادوا جمع القرآن الكريم كانت هي أيضًا أساس هذا الجمع، فقد اتفقوا على كتابة ما تحققوا أنه قرآن مستقرٌّ في العرضة الأخيرة، وتركوا ما سوى ذلك.(33)
وقد مرَّ بنا في المبحث السابق بعض الآثار التي تدل على أن القراءة التي يقرؤها الناس -وهي القراءة التي جمع عليها القرآن- هي ما عرض في العرضة الأخيرة، وفي هذا دلالة على أثر هذه العرضة الأخيرة في جمع القرآن.(34)
قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه.(35)
وقال أيضًا: قرأ زيد بن ثابتٍ على رَسُول اللهِ في العام الذي توفَّاه الله فيه مرتين، وإنَّما سُمِّيَت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابتٍ؛ لأنه كتبها لِرَسُـول اللهِ ، وقرأها عليه وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بِها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف.(36)
وقال البغوي:(37) يُقال إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة، التي بُيِّن فيها ما نُسِخ وما بَقِي.(38)
وعن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبعَةِ التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا، قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(39)
وهكذا فقد كانت هذه العرضة عمدة هذه الأمة في معرفة القرآن، إذ إنَّها قد جمعت ما ثبتت تلاوته من الكتاب الحكيم، وأخرجت ما ثبت نسخه.
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب بدء الوحي (1/40) ح 6، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل بَاب كَانَ النَّبِيُّ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ (15/68) ح 2308.
(2) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (8/659-661) ح:4997 ، و 4998.
(3) هو الفقيه الحنفي محمد زاهد الكوثري، جركسي الأصل، ولد بالأستانة سنة 1296هـ، له اشتغال بالأدب والسير، وله تعليقات كثيرة على كتب الفقه والحديث والرجال، وكذلك له مؤلفات عديدة في مختلف ميادين الشريعة. توفي بمصر سنة 1371هـ. الأعلام للزركلي (6/129).
(4) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها للدكتور حسن ضياء الدين عتر ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(5) فتح الباري (8/658).
(6) البرهان في توجيه متشابه القرآن ص 16، والبرهان في علوم القرآن (1/259).
(7) فتح الباري (8/658).
(8) البرهان في علوم القرآن (1/257).
(9) ومن قراءته بخلاف ترتيب المصحف: ما رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين وقصرها بَاب اسْتِحْبَابِ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ فَقُلْتُ يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ ثُمَّ مَضَى فَقُلْتُ يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى فَقُلْتُ يَرْكَعُ بِهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا … الحديث. صحيح مسلم مع شرح النووي (6/61) ح 772.
(10) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/382) ح 2043، (1/537) ح3003، ورواه البيهقي في جامع شعب الإيمان (5/196-197)، وعبد بن حميد في المنتخب (1/553) ح 646.
(11) رواه البخاري في صحيحه كتاب فضائل القرآن باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي ـ (8/659) ح 4998.
(12) رواه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام (6/728) ح 3624 ، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة بَاب فَضَائِلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِمَا الصَّلاة وَالسَّلام (16/5-7) ح 2450.
(13) الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 267، نقلاً عن مقالات الكوثري ص 6- مطبعة الأنوار المحمدية.
(14) فتح الباري (8/660).
(15) سورة المائدة، من الآية 3.
(16) رواه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب زيادة الإيمان ونقصانه (1/129) ح 45.
(17) من الآية 278 من سورة البقرة.
(18) رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن، باب } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ (8/52) ح 4544.
(19) سورة البقرة، من الآية 281.
(20) احتج لذلك البخاري بالحديث السابق، فبوَّب بِهذه الآية، وأورد تحتها ذلك الحديث. قال الحافظ: ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس، فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر: آخر آية نزلت على النَّبِيّ : } وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلىَ اللهِ{ ، وأخرجه الطبري من طرق عنه… قال: وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهن. فتح الباري (8/53)، وانظر تفسير الطبري (3/114-115)، والإتقان (1/77-78).
(21) من الآية 282 من سورة البقرة.
(22) تفسير الطبري (3/115)، قال السيوطي: مرسل صحيح الإسناد. الإتقان (1/78).
(23) الإتقان في علوم القرآن (1/78).
(24) هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي، تابعي جليلٌ، ولد في حياة النَّبِيّ ، وقرأ القرآن على عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو مقرئ الكوفة، ظل يقرئ الناس بمسجدها الأعظم أربعين سنة. معرفة القراء الكبار (1/52-53)، وشذرات الذهب (1/92).
(25) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(26) رواه أحمد في مسنده، مسند بني هاشم (1/598) ح 3412، ورواه النسائي في السنن الكبرى كتاب فضائل القرآن (3/7)، وكتاب المناقب (4/36).
(27) رواه أحمد في مسنده: مسند بني هاشم (1/535) ح 2992.
(28) عبيدة السلماني الفقيه الْمُرادي الكوفي، أحد الأعلام، أسلم عام الفتح، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود، وكان يقرئ الناس، ويفتيهم. توفي سنة 72 على الصحيح. سير أعلام النبلاء (4/40)، وشذرات الذهب (1/78).
(29) رواه البيهقي في دلائل النبوة (7/155-156).
(30) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. مستدرك الحاكم (2/230)، ورواه البزار في مسنده، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (7/154).
(31) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/395).
(32) صحيح مسلم بشرح النووي (6/100).
(33) الإتقان في علوم القرآن (1/142).
(34) وانظر: الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها ص 270-271.
(35) شرح السنة للإمام البغوي (4/525)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(36) شرح السنة للإمام البغوي (4/525-526)، وانظر البرهان في علوم القرآن (1/237).
(37) الشيخ الإمام القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي، المفسر، صاحب التصانيف، كان إمامًا في الفقه والتفسير، زاهدًا قانعًا باليسير. توفي سنة 516هـ. سير أعلام النبلاء (19/439)، وشذرات الذهب (4/48).
(38) شرح السنة (4/525).
(39) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33.