الفصل الثامن
أرخى الظلام سدوله ولم تعدلزهور الربيع نضرتها وبهجتها ولكن الربيع(وهو موسم الحياة وعيد الشباب)له في النفوس دفعة وفي الأبدان حركة فهل يقنع بوارو بهذه النتيجة ؟لا يزال الشك يداعب خياله فتنهد طويلاً واستقر رأيه -في النهاية -على السفر إلى جبال الألب السويسرية ليحسم هذه الشكوك.
هو الأن عند نهاية الدنيا حيث يغطي ركام الجليد كل شييء وهذه الأكواخ المبعثرة هنا وهناك وتحوي هياكل أدمية تصارع الموت .
وصل أخيراً إلى كوخ كاترينا ساموشينكا ,فرأها ممددة في فراشها غائرة العينين والخدين وقد أخرجت من تحت غطائها ذراعين هزيلين لقد أثار هذا المنظر شجونه لقد نسي أسمها ولكنه لم ينس رقصاتها الفتية الرائعة
تذكر ميشيل نهوفجين في رقصة الصياد يداور طريدته حيناً ويطاردها أحياناً في تلك الغابة السحرية التي أخرجتها عبقرية أمبروز فاندل للمشاهدين كغابة حقيقية على خشبة المسرح
وتذكر الطريدة ..ذلك الغزال بقرنيه الذهبيتين وقدميه البرونزيتين يهرب من قناصه في خفة ورشاقة .تذكر ذلك الغزال حين صرعه القناص فسالت دماؤه ,وتذكر ميشيل نوفجين وهو يقف نادماً أمام غزاله الجريح فيأخذه من بين يديه كالواله المشدوه...
ونظرت ساموشينكا وهي في فراشها إلى بوارو ثم قالت:
لم أرك قبل الأن ماذا تريد مني؟
فانحنى بوارو قليلاً وقال:أشكر لك ياسيدتي أولاً فنك الرفيع الذي أتاح لي رؤيتك في إحدى الليالي
فابتسمت ابتسامة ضعيفة, وقال بوارو :جئت هنا لأبحث عن نيتا وصيفتك القديمة
فاتسعت حدقتا ها وسألته في دهشة :ماذا تعرف عن نيتا؟
-سأخبر يا سيدتي
وروى لها قصة الميكانيكي تيد من أولها إلى أخرها وهي تصغي إليه بانتباه,وحين انتهى قالت:إنها مأساة مأساة مؤثرة حقاً
فهز بوارو رأسه وقال :نعم إنها مأساة . ماذا تعلمين عن هذه الفتاة ياسيدتي؟
قالت ساموشينكا وفي نبراتها حزن ظاهر:كانت عندي وصيفة تدعى جانيتا ,مرحة الطبع طيبة القلب ,فحدث لها ما يحدث لأمثالها الغريرات فاغتالها الموت وهي صغيرة.
فأثارت هذه العبارة فضوله وسألها :هل ماتت؟
-نعم ماتت
وبعد لجظة سألها ثانية :ولكن هناك شيئاً واحداً غاب علي فهمه, وهو أنني حينما سألت السير جورج ساندرفليد عن فتاتك بدا عليه الاضطراب لماذا؟
فظهرت على وجه الراقصة علامات الامتعاض وقالت:ربما يكون قد اعتقد أنك تعني ماري التي خلفت جانيتا ,وقد حاولت تلك الفتاة ابتزازه لأمور لاحظتها عليه,فقد كان من عادتها التجسس على أخبار الناس وقراءة رسائلهم
وبعد أن صمت بوارو لحظة سألها :إذن فقد كانت فاليتا تحمل اسماً أخر وهو جانيتا؟ وهي أيضاً قد ماتت في بيزا على إثر عملية استئصال الزائدة الدودية
فقالت الراقصة بعد شيء من التردد :نعم هذه الحقيقة
فقال بوارو:ولاكن أهلها يذكرونها باسم بيانكا
فهزت ساموشينكا كتفيها وأجابت :بيانكا جانيتا ...هذه مسألة لا تهمني ولكني أظن أنها أستظرفت الاسم فأطلقته على نفسها
-أنت تظنين ذلك ولكنني أظن أن في المسألة سرأ؟
ماهو؟
انحنى بوارو وقال : الفتاة التي وصفها لي تيد كانت ذات شعر كالأجنحة الذهبية
ثم دنا من ساموشينكا ولمس شعرها بيديه وتابع كلامه:
أجنحة ذهبية أوقرون من ذهب ... أجنحة كتلك التي كنت تبدين فيها ملاكاً أو شيطاناً , والقرون كتلك القرون الذهبية
كقرون ذلك الغزال الجريح
سألت كاترينا بصوت يائس حزين:الغزال الجريح؟
فرد بوارو :لا يزال وصف تيد ليمسون يلقي في روعي حيرة بالغة هذه الحيرة مصدرها أنت...أنت حينما كنت ترقصين بقدميك البرونزيتين في الغابة هل أخبرك بما يساورني يا أنستي؟
أظنك أمضيت أسبوعاً من غير أن تكون في خدمتك وصيفتك وفي خلال هذا الأسبوع سافرت إلى جرسلون لأن بيانكا فاليتا كانت قد تركتك وعادت إلى إيطاليا حيث ماتت في مقتبل العمر
إثر عملية جراحية . وكنت لم تحصلي على وصيفة جديدة وقد شعرت في ذلك اليوم بأعراض المرض فلم ترافقي الضيوف إلى شاطيء النهر بل بقيت وحيدة في المنزل وسمعت الجرس يرن وذهبت لتنظري من القادم .هل أخبرك من كان ذلك القادم؟
كان شاباً في برائة الأطفال وجمال أبطال الأساطير ,فانتحلت أمامه لا أسم فاليتا ...بل أسم نيتا فاليتا ثم عشت وإياه بضع ساعات في الفردوس...
وهنا ساد بينهما سكون عميق , أجابت بعده كاترينا بصوت أجش:لعلك على حق , ومصداقاً لقصدك فإن نيتا ستموت أيضاً في مقتبل العمر.
فقال بوارو وهو يضرب المنضدة بيده:كلا لن تموتي يجب أن تكافحي من أجل الحياة الجميلة
فهزت رأسها في يأس وحزن ثم أجابت :ولاكن أي حياة تنتظرني؟
-ليست حياة المسرح ولكنها حياة أخرى.تعالي معي يا أنستي , وأرجو أن تصدقيني القول :هل كان أبوك أميراً أو دوقاً أو جنرالاً عظيماً؟
فضحكت وأجابت :بل كان سائق شاحنة في لينغراد
-حسناً ولماذا لا تكونين زوجة لذلك الميكانيكي القروي وتنجبين منه أطفالاً حساناً؟
فامسكت كاترينا أنفاسها ثم أجابت :إنها لفكرة خيالية
فقال بوارو :وأنا أظن أنها ستتحقق
النهاية